07‏/06‏/2011

من هم المحافظون الجدد


"المحافظون الجدد".. مجموعة سياسية أميركية، تميل إلى اليمين المسيحي المتطرف، آمنت بقوة أميركا وهيمنتها على العالم. وهم ليسوا ساسة فقط بل كتابا نافذين، ومفكرين استراتيجيين، ومحاربين قدامى، وجمهرة من المثقفين أكثر تطرفا من كل ألوان الطيف الفكري والثقافي الأميركي الحالي.

وهم أيضا جماعة ذات ميول صهيونية مغلفة بعداء شديد للعرب والمسلمين، حددت مسار السياسة الخارجية الأميركية في عهد جورج دبليو بوش، وعملوا على بلورة سياسة تجيز استعمال قوة أميركا العسكرية للوصول إلى أهدافها، من دون النظر إلى أية اعتراضات.. إذ يعتقد المحافظون الجدد أنهم يملكون الحقيقة وحدهم، وأن قوة الأسلحة التي يملكونها تفرض نفوذها على الجميع.

ويصنف تيار المحافظين الجدد انه لصيق الصلة بإسرائيل، وحليف متعصب لها، إذ أن أكثر قادة ومنظري (الجدد) من المثقفين اليهود. ويعرف بعض المتخصصين هذا التيار انه نتيجة صراع نشب بين اليهود الليبراليين واليهود المحافظين حول السيطرة على وجهة يهود أميركا الأيديولوجية.

والمحافظون الجدد ليسوا جددا إلا في إعادة ممارسة دورهم وتوجهاتهم، لأن الفكر المحافظ هو لب القيم الأميركية منذ تأسست الولايات المتحدة، وقد عادت هذه الخلايا النائمة إلى الظهور المتطرف من جديد بفضل النهج السياسي الذي اعتمده جورج بوش الابن.

وكان منشأ هذه الحركة مع خروج مجموعة كبيرة من المفكرين اليهود واليمينيين من الحزب "الديمقراطي" إبان ولاية جيمي كارتر، الذي تبنى أجندة اليسار الجديد، وعارض التصعيد ضد السوفيت، ورفض مطالب المحافظين بتوظيف بعضهم في إدارته. ومن ثم تحولوا ــ متبنين سياسة متشددة تدعو إلى تعزيز القوة العسكرية ومواجهة السوفيت ــ إلى الحزب "الجمهوري" وزادت هيمنتهم على السياسة الخارجية الأميركية في عهد رونالد ريغان، الذي آمن بفكرة التصعيد، ورفض نقد اليسار اللاذع للثقافة الأميركية.

وقد عرف المحافظون مع ريغان ــ كمجموعة منشقة عن الحزب الديمقراطي ــ باسم "ديمقراطيو ريغان" Reagan's Democrats ، حيث تفرقوا في المراكز الأكاديمية والبحثية والإعلامية من دون أن ينتظموا في حزب أو يشكلوا جسما سياسيا يمكن أن يشار إلى أدبه السياسي المكتوب أو إلى عقيدته الفكرية. وكانت هذه هي المرحلة التي تبلور خلالها تيار "المحافظين الجدد"، إذ ساعدت الحركات ــ أو بمعنى أدق ــ التقلبات الفكرية والسياسية التي مر بها المجتمع الأميركي، على تشكيل بيئة خصبة لنمو أفكارهم وتبلور تيارهم الفكري والسياسي.

منطلقاتهم الفكرية:

يؤمن المحافظون الجدد بدور "القوة العسكرية" كأداة أساسية لمواجهة التحديات والنزاع في العالم. والعلاقات الدولية بالنسبة لهم تقوم على القوة، كما أن السلام الحقيقي إنما يأتي فقط نتيجة للانتصار في الحرب، وليس بالدبلوماسية أو العدالة.

وخلال السنوات الأخيرة ساند المحافظون الجدد عددا من الأفكار التي اكتسبت رواجا واسعا في واشنطن، وعلى رأس هذه الأفكار "الإيمان أن أمام أميركا فرصة غير مسبوقة لإعادة صياغة النظام العالمي" نابعة من حالة الفراغ التي يعيشها العالم بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وهو فراغ يجب أن تملأه أميركا من خلال الدور "الرسولي" الحتمي الذي يجب أن تضطلع به.

إذ يرى هؤلاء أن العالم يبحث عن قائد، وأن أميركا هي حتما هذا القائد، فسيطرة أميركا وسيادتها المطلقة على العالم هي مصدر الاستقرار. لذا فهم يرون أن من الطبيعي أن يتوحد الغرب وغيره من دول العالم تحت القيادة الأميركية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.

ويكن المحافظون الجدد قدرا كبيرا من الرفض لدور المنظمات الدولية، والقانون، وجهود الحد من التسلح، وبشكل خاص يناصبون "الأمم المتحدة" العداء، حيث يرون أن القوة العسكرية يجب أن تبقى أساسا رئيسا للسياسة الخارجية.

وقد آمن الجدد بأنهم قادرون على التدخل العسكري لإعادة تشكيل الدول، كالعراق وأفغانستان ولبنان وإيران، وجعلها نموذجا لقدرة أميركا على التدخل ومساعدة الأصدقاء والتغيير، ولهذا جرى الترويج لمبدأ السيادة الوطنية المحدودة، أو حتى إلغاؤها عندما تتعارض مع المصالح الإستراتيجية الأميركية. وفتح الأميركيون الباب لحملات عسكرية تأديبية على دول مستقلة وأعضاء في الأمم المتحدة، كما وصل بهم الحال إلى تهميش دول كبرى ذات دور أساسي وفاعل في العالم كالصين، وروسيا.

ومن بين ما يؤمن به المحافظون الجدد أن من واجبهم التعجيل بعودة "المسيح" إلى الأرض، لتحقيق نبوءة الكتاب المقدس "بشن الحرب على المسلمين والاستيلاء على كل الأراضي المقدسة". وهم ينظرون بعين التطرف إلى الآخر ويرونه ــ أيا كان ــ عدوا يجب استئصاله.

وحول المكونات الأساسية لفكرهم، يقول (ستيفن هلبر) و(جوناثان كلارك) ــ مؤلفا كتاب "المحافظون الجدد والنظام العالمي" ــ انها تشمل الإيمان العقائدي والصراع بين "الخير" و"الشر". إذ دعا مفكرهم ليو شتراوس ــ الذي هاجر من ألمانيا هربا من النازية واستقر في أميركا ــ إلى بناء أميركا كقوة كبرى تحارب الشر في العالم.

وفي مجال الاقتصاد، تبنى المحافظون الجدد "الليبرالية الجديدة" التي تستند إلى فرض (الأمركة) على نظام العولمة، وما تتضمنه من تدويل واسع على صعيد الإنتاج والتبادل، وتداول الخدمات والمال والاتصالات والمعرفة ومنظومة القيم والأفكار. كما تبنوا سياسة اجتماعية منحازة لصالح الأثرياء والشركات الرأسمالية الكبرى، على حساب مصالح الفقراء وشرائح واسعة من المجتمع.. وكانوا قد رفضوا الثورة الثقافية التي اجتاحت أميركا في الستينات، والتي نادت بالتعددية الثقافية وحقوق الأقليات والنساء، إذ رأى الجدد أن ذلك من شأنه أن يضعف أميركا.

وكان الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، قد نبه في كتابه: "القيم الأميركية المعرضة للخطر" إلى أن المحافظين الجدد ــ الذين روجوا لفكرة أنه إما أن تكون معنا أو أن تصبح ضدنا ــ أصبحوا بفلسفتهم الإمبريالية يشكلون أكبر خطر على سمعة الولايات المتحدة في العالم.

الفوضى الخلاقة:

تمثل "الفوضى الخلاقة" نظرية المحافظين الجدد في التعامل مع العالم من حولهم. إذ تعني الفكرة باختصار: اغراق الجماهير بالفوضى كي تتمكن الصفوة من ضمان استقرار وضعها.

وطبقا لما يذكره المتخصصون بفكر ليو شتراوس ــ أحد أساطين المحافظين الجدد وفيلسوفهم ــ فإن السلطة الحقيقية لا يمكن ممارستها إذا ما بقي المرء في حالة ثبات، أو حافظ على الوضع الراهن، بل على العكس، ينبغي العمل على تدمير كل أشكال المقاومة.

وهي أيضا فكرة تحويل مناطق واسعة من العالم إلى مناطق غير مأهولة، فبالنسبة لمنظري "الفوضى البناءة" يجب سفك الدماء من أجل الوصول إلى نظام جديد في المناطق الغنية بالثروات.

وهي فكرة تم تكريسها باعتبارها سياسة أمن قومي أميركية من قبل مستشار الأمن القومي السابق هنري كيسنجر في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. وقدم كيسنجر دراسة تم اعتمادها عام 1974 من قبل الإدارة الأميركية بعنوان "مذكرة الأمن القومي 200" (NSM 200)، ومن أهم افتراضاتها وتوصياتها هي أن النمو السكاني خاصة في دول العالم الثالث يعتبر تهديدا للأمن القومي الأميركي وحلفاء واشنطن الغربيين، لان تزايد أعداد السكان في تلك البلاد سيؤدي إلى استهلاك الثروات المعدنية هناك من قبل تلك الشعوب : إما عن طريق التطور التكنولوجي أو بسبب الحاجة إلى إعالة الأعداد المتزايدة من السكان.

وتفترض تلك الدراسة أن هذا الأمر يعتبر تهديدا للأمن القومي الأميركي وحليفاتها، من الدول الصناعية التي تعتمد في بقائها وتطورها مستقبلاً على تلك الموارد المعدنية في تلك البلدان من العالم الثالث. وذكرت تلك المذكرة مجموعة من البلدان الأفريقية والآسيوية من بينها مصر التي أوصت بتحديد النسل فيها.

ومن بين ما تقوم عليه الفكرة : استبدال الدول القائمة بدويلات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر. وبعبارة أخرى، فالفكرة تتضمن تدمير الدول القائمة من أجل إنشاء كيانات ضعيفة يسهل توجيهها والتلاعب بثرواتها ومقدراتها.

ولإعطاء صورة واضحة عن نوايا ومخططات المحافظين الجدد نشرت مجلة "إكزكتف إنتلجنس ريفيو" تقريرا حول اجتماع عقد في واشنطن لمناقشة "الحرب العالمية الرابعة" حضره وتحدث فيه أبرز منظري المحافظين الجدد وأكثرهم نفوذا داخل الإدارة الأميركية وفي مراكز صنع السياسة في واشنطن.



إذ شارك ثلاثة من كبار مسؤولي إدارة بوش - تشيني، وهم نائب وزير الدفاع الأسبق بول وولفويتز واثنان من دعاة الحرب من المحافظين الجدد في مجلس سياسات الدفاع (Defense Policy Board) جيمس وولزي وإليوت كوهين، شاركوا جميعا في الاجتماع الذي عقد برعاية إحدى أكثر الجماعات الصليبية المحافظة الجديدة تطرفا، وهي "لجنة الخطر الداهم" (Committee on Present Danger) وهذه هي نفس المنظمة التي كانت ناشطة أثناء الحرب الباردة والتي طالبت بقصف كوريا الشمالية بالقنابل الذرية في عام 1949، ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (Foundation for the Defense of Democracies). وكلا المنظمتان أعلنتا من قبل أن "الإسلام" هو العدو العالمي الجديد الذي يجب أن تتم هزيمته من خلال ما يسمونه الحرب العالمية الرابعة التي بدأت وتجري الآن حسب وجهة نظرهم.

والمسألة التي تم عرضها خلال هذا الاجتماع هي أنه إلى أن يتم القضاء على جميع "الدول الراعية للإرهاب" إما عن طريق الحروب أو الانقلابات أو الأشكال الأخرى من تغيير الأنظمة، فان الولايات المتحدة ستكون في حرب أبدية، وأهم عامل في هذه المرحلة "الإرادة لخوض القتال". وفي خطابات عديدة سابقة وصف كل من (جيمس وولزي) الذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية لفترة قصيرة و(أليوت كوهين) وصفا هذه الحرب بوصف "حرب المائة عام".

وكان المتحدث الرئيس في اجتماع "لجنة الخطر الداهم" هو نورمان بودهوريتز (Norman Podhoretz) ــ الشيوعي السابق الذي انقلب إلى محارب إمبريالي ومؤسس مجموعة المحافظين الجدد ــ وشغل صهر بودهوريتز وهو (إليوت أبرامز) منصب مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بوش. البروفيسور بودهوريتز وهو من الجيل الأول من الشتراوسيين، هو الذي سمى الاجتماع بهذا الاسم بناء على مقالة نشرها في مجلة "كومينتاري" (Commentary) التي تعتبر من أهم مطبوعات المحافظين الجدد ويشغل بودهوريتز نفسه رئاسة تحريرها.

وتبرهن أجندة "لجنة الخطر الداهم" ــ حسب مراقبين ــ على ما أشار إليه (ليندون لاروش) المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الذي يرأس "لجنة لاروش" للعمل السياسي. ففي مذكرة إستراتيجية كتبها، يقول لاروش: إن هدف الآفة المسماة إدارة بوش ـ تشيني هو إزالة كل ما يتعلق بوجود الدولة القومية ذات السيادة، وذلك باستخدام أداة "الحروب الأبدية". وكتب لاروش مخاطبا بشكل خاص أولئك الذين يعتقدون في دول العالم وداخل الولايات المتحدة أن بمقدورهم العيش مع فترة رئاسية جديدة لبوش وتشيني، ما يلي: "إن هدفهم هو ليس إخضاع مناطق معينة سياسيا كمستعمرات، بل إزالة جميع المعوقات التي تقف في طريق النهب الحر للكوكب (الأرض) ككل. إن نيتهم هي ليست فتح أراضي جديدة، بل تحقيق إزالة كل بقايا السيادة القومية وتقليص عدد سكان العالم من البشر إلى أقل من مليار نسمة… فهدفهم في أفغانستان والعراق على سبيل المثال هو ليس السيطرة على هذين البلدين، بل إزالة أمم قومية عن طريق إطلاق قوى الفوضى والدمار. هكذا سيكون من قبيل خداع النفس بشكل كبير اعتبار فشل العمليات العسكرية في العراق كفشل لنية إدارة بوش. فنيتها هي التدمير الذاتي لآخر بقايا سيادة الدولة القومية، وهذا ما يحققون فيه نجاحات كبيرة في الوقت الراهن".

وتحت عنوان: "كسر نظيف: إستراتيجية جديدة لتأمين مملكة (إسرائيل)" تم صياغة وثيقة في عام 1996، على يد مجموعة من مفكري المحافظين الجدد، تضمنت مشروعا استعماريا واسعا للشرق الأوسط ، وقد هيئت من قبل فريق من الخبراء جمعهم ريتشارد بيرل ثم أعطيت لبنيامين نتنياهو. وباختصار فانها تمثل أفكار وأطروحات الصهيوني فلاديمير جابوتينسكي، إذ دعت الوثيقة إلى إلغاء اتفاقيات أوسلو للسلام، والقضاء على الزعيم الفلسطيني ياسرعرفات، وضم الأراضي الفلسطينية، إلى جانب الإطاحة بالرئيس المعدوم صدام لزعزعة استقرار سوريا ولبنان في سلسلة من الأحداث. وتفكيك العراق وإقامة دولة فلسطينية على أراضيه. واستخدام الكيان الإسرائيلي كقاعدة تكميلية لبرنامج حرب النجوم الأميركي.

تحالفات المحافظين الجدد

التقت أجندة المحافظين الجدد ــ منذ ظهورهم ــ مع اليمين الأميركي والتيار المسيحي المتطرف. إذ تحالفوا مع "الجناح اليميني" في الحزب الجمهوري، وجماعات "الأصولية المسيحية" القريبة جداً من اللوبيات اليهودية، وهو تحالف اعتمد عليه المحافظون كثيرا في الوصول إلى السلطة.

وكان الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، قد أشار في كتابه إلى ان ما يزيد الطين بلة هو توافق أجندة المحافظين الجدد مع أجندة متطرفة أخرى، هي أجندة الأصوليين في اليمين المسيحي الأميركي.

ونظراً لان المحافظين الجدد هم في الأساس تيار فكري سياسي، لا يملك قواعد جماهيرية انتخابية حقيقية، فقد اعتمدوا على الجمهوريين، والجماعات اليمينية، والناخبين الإنجليكيين، وأثرياء الجنوب الأميركي، وقوى المحافظين التقليديين في ولايات الجنوب والغرب الأميركي.

ومن خلال تعاون اليمين الأميركي مع الجدد في بناء شبكة واسعة من الجماعات الفكرية النشطة، من تيار المحافظين الجدد داخل الجامعات والمؤسسات الفكرية والبحثية الأميركية.

إذ لم يكن الجدد ليسيطروا على مقاليد صنع السياسة بأميركا دون موافقة ضمنية من قوى اليمين، خاصة وأن تلك القوى كانت تملك أفكارا بعضها أكثر تشددا من بعض أفكار المحافظين أنفسهم. حيث ينطلق (المسيحيون المتدينون) في رؤيتهم للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط والعالم، من منطلقات دينية خطيرة، تؤمن بأن العالم وأميركا يسيران بسرعة إلى نقطة صدامية تمثل نهاية العالم، من خلال حرب تأتي على الأخضر واليابس، يكون مركزها الشرق الأوسط، ويقودها العالم كله ضد أميركا وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل.

أما (الإنجليكيون) فهم لا يثقون في المنظمات الدولية، ولا يؤمنون بقضايا مثل الحد من التسلح أو تخفيض النفقات العسكرية الأميركية، لأن أميركا بالنسبة لهم تستعد لحرب طاحنة لا راد لها.

أما النخب الأميركية (المحافظة التقليدية) فهي انعزالية بطبيعتها لا تثق في المنظمات الدولية أو في العالم الخارجي، ولا تؤمن إلا بالقوة الأميركية وزيادتها المستمرة وبناء المزيد منها. وبشكل عام يمثل بقاء تلك المعتقدات والنزعات ضمانة لا يستهان بها لاستمرار سياسات وأفكار المحافظين الجدد.

وفي كتابهما "أمة اليمين: قوة المحافظين في أميركا" يركز الكاتبان (إدريان ولدريدج) و(جون مايكل ثويت) على أن تيار المحافظين الجدد هو "تيار ظهر في أميركا ليرضي نزعات أطياف مختلفة من اليمين تشكل نسيج الأمة الأميركية من الناحية السياسية".

ويضيفان أن اليمين الأميركي ينقسم من حيث الأداء الوظيفي إلى مجموعتين:

أولا: "مراكز الأبحاث اليمينية" التي تركز على إصدار الدراسات التي تنطوي على أفكار وأطروحات لإدارة السياسة العامة في الولايات المتحدة، والسعي لإقناع الإدارة والكونغرس بتبني هذه السياسات، حيث تتزعم هذه المجموعات مراكز بحثية مثل معهد "أميركان إنتربرايز" ومؤسسة "هيريتدج" ومعهد "كاتو" للأبحاث العامة.

ثانياً: "المجموعات اليمينية على المستوى الجماهيري" ومهمتها حشد أصوات الناخبين اليمينيين وربطها بالقضايا والسياسات والترويج لساسة معبرين عن مصالح اليمين الأميركي، ويمثل هذا التيار منظمات مثل التحالف الأميركي المحافظ والتحالف المسيحي.

الإعلام وسيلة المحافظين

عزز المحافظون الجدد من معتقداتهم ووجودهم في المجتمع الأميركي من خلال التغلغل بين اليمينيين البروتستانت، والاستفادة من محطات التلفزة مثل "فوكس نيوز"، والبرامج الحوارية التي كانت ومازالت تعد من معالم الحياة السياسية الأميركية منذ ثلاثينات القرن العشرين.

وطوال عقد التسعينات شرعت هذه البرامج الإذاعية في بناء قواعد أكبر من المستمعين، وبناء على هذا الاكتشاف الجديد بدأت شبكات التلفزة في توفير مزيد من المنابر للمحافظين الجدد لطرح أفكارهم، لتصبح مع مرور الوقت بمثابة كفة التوازن في مواجهة الصحف وشبكات التلفزيون في المدن الكبرى ومحطات الإذاعة التي تميل إلى التوجهات الليبرالية.

كما اتخذ المحافظون الجدد عدد من المنابر الصحافية الهامة وسيلة لنشر توجهاتهم، مثل مجلة "كومنتاري" وهي مجلة الجيل الأول من المحافظين، بدأت بالصدور عام 1945 في نيويورك عن اللجنة اليهودية الأميركية، وكانت موجهة بالأساس إلى النخبة المثقفة.

وأيضاً مجلة "ويكلي ستاندارد" الأسبوعية لسان حال اليمين الصهيوني الأميركي، مجلة الجيل الثاني من المحافظين، الممولة من قبل روبرت موردوخ إمبراطور الإعلام المعروف وصاحب الميول اليمينية المتطرفة، أسسها ويليام كريستول نجل إيرفينج كريستول، وقد تميزت مقالاتها ورسوماتها بنزعة أكثر جماهيرية، ومكتبها لا يبعد كثيرا عن البيت الأبيض بالعاصمة الأميركية واشنطن.

كما تظهر كتابات للمحافظين الجدد باستمرار في مجلة "فورين أفاريز" المعروفة، ويكتبون بشكل دوري في ثلاثة من أكبر الدوريات الأميركية، حيث يكتب (ماكس باوت) لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، ويكتب (دايفيد بروكس) لـ"نيويورك تايمز"، ويكتب (روبرت كاجن) و(تشارلز كروتهمز) لـ"الواشنطن بوست"، هذا إضافة إلى سيطرتهم على مقالات الرأي بصحيفة "وال ستريت جورنال".

"الفلسطينيون لهم تاريخ كرواد في البلاء العظيم للإرهاب في عصرنا الحاضر‏,‏ ومازالوا نجوماً في سماء الإرهاب" كانت تلك عبارة (مارتن بيرتز) التي أوردها في مقال له بمجلة "نيو رببلك"

وهي إحدى خمس مجلات تعتبر قلاعاً للفكر اليهودي المتطرف في أميركا‏,‏ أما المجلات الأربع الأخريات‏,‏ فهي ‏:‏ "مومنت" و"ناشيونال ريفيو" و"كومنتري" و"يكلي ستاندرد" وهذه المجلات رغم مظهرها المتواضع‏ إلا أنها من أخطر المنابر التي تنشر الأفكار المحافظة المعادية للعرب والمسلمين‏,‏ طالما أنهم لم يصلوا إلى حالة الاستسلام التام‏‏ وانعدام الوزن في مواجهة إسرائيل‏.

وخلال إدارة جورج دبليو بوش الحالية في البيت الأبيض استطاع الجدد السيطرة على أكبر وأهم مؤسسات ومراكز البحث، وهيئات التحرير في الصحف الهامة. وقد تبلورت وجهات نظرهم ومواقفهم قبل أن يصلوا إلى السلطة، من خلال مراكز الأبحاث اليمينية التي تضمنت أطروحاتهم حول السياسة العامة في الولايات المتحدة، والسعي لإقناع الإدارة الأميركية والكونغرس بهذه الفلسفة الجديدة، التي تتبنى التدخل الاقتحامي المنفرد في الشؤون الخارجية، والضربات الاستباقية.

وقد أضافت مراكز الدراسات زخما كبيراً لمواقف المحافظين، مثل معهد "هدسون"، ومعهد "أميركان إنتربرايز" للأبحاث، ومعهد "المشروع الأميركي" و"مشروع العقد الأميركي الجديد" ومعهد "ميمري" وهو الأداة الدعائية التي أسستها ميراف وورمسر مع عميل الاستخبارات الإسرائيلية السابق العقيد ييجال كارمون. وهو المعهد الذي وصفه المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية (فينسينت كانيسترار) بالقول إن "المعهد يعمل كأداة دعائية من وجهة نظر ليكودية متطرفة".

ويُعدّ معهد "المشروع الأميركي" من أقرب معاهد البحوث السياسية للإدارة الأميركية الحالية. فللمعهد علاقة وثيقة بنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني الذي تشرف زوجته على المعهد مباشرة. ويتوفّر المعهد على عشرات من الباحثين المتفرغين وغير المتفرغين من كبار أساتذة الجامعات الأميركية؛ ويضم مجلسه الإداري ومجلسه للتوجيه الأكاديمي خمسة وثلاثين عضواً من الشخصيات المؤثرة في اقتصاد الولايات المتحدة وسياساتها مثل رئيس بنك "تشيس مانهاتن" والمدير العام لشركة "تكساس أنسترومنتس" ورئيس شركة "كوكس" للبترول والغاز، وعدد من كبار أساتذة العلوم السياسية مثل صاموئيل هانتنغتون أستاذ علم الحكومة في جامعة هارفرد وصاحب نظرية صدام الحضارات. ونظراً لأن هذا المعهد هو وكر لمفكري المحافظين الجدد المقربين من إدارة بوش، فإنه يمكن القول إن بحوث هذا المعهد تمثّل توجهات الحكومة الأميركية، أو أن سياساتها تتأثر بشكل كبير ببحوث هذا المعهد.

المحافظون في معية بوش الابن

وفي معية جورج دبليو بوش تحقق حلم المحافظين الجدد في العثور على الحاكم الذي يتبنى أفكارهم، فرغم نشاطهم الدؤوب وسط الدوائر السياسية المؤثرة في الولايات المتحدة، فإن الجدد لم يجدوا فرصتهم المؤاتية لتأخذ بناصية القرار السياسي، بصورة واضحة، إلا في عهد وإدارة بوش الابن، الذي ضم إلى زمرته أفراداً مؤثرين من هذه المجموعة النشطة، وأوكل إليهم مناصب في مواقع سيادية مثل وزارات الدفاع والعدل والبيت الأبيض، وفي مواقع أخرى لها تأثيرها المباشر بالسياسات الخارجية والدفاعية والاجتماعية في الولايات المتحدة.

وقد اعتمد الرئيس الجمهوري على عشرات من الجدد في إدارته، وهنأ نفسه باختيارهم، في حين ظل الباقون موجودين في أماكن عدة كمستشارين للحكومة أو في مناصب أممية ومواقع إعلامية واقتصادية متقدمة. وبالرغم من أن الرئيس بوش لا ينتمي شخصياً إلى المحافظين الجدد، إلا أنه تأثر بهم في سياساته، ومنذ أن قدم هؤلاء إلى البيت الأبيض في معيته استطاعوا أن يجذبوا ــ بتوجهاتهم السياسية والفكرية ــ اهتمام الدوائر الإعلامية والسياسية في العالم أجمع، وأصبحوا القوة الأساسية المؤثرة في الإدارة والكونغرس.

يقول المنتقدون لبوش وإدارته من المحافظين: إن الرئيس الأميركي لم يأخذ القرارات، لأن آلية الحكومة التي يديرها بالاسم كانت هي التي تديره. وهذا الاحتضان الرئاسي جعل من وجود مجموعة (الجدد) السياسي والتنفيذي ملموساً ومحسوساً، كما أعطى أفكارهم وفلسفتهم السياسية متنفساً أخذ يشكل تحدياً للنسق التقليدي المألوف في إدارة المجتمع السياسي الأميركي. وقد اعتبر هذا التحدي الذي أخذت تشكله المجموعة للمؤسسة السياسية التقليدية على أنه "اختطاف" وقع للسياسة الخارجية الأميركية على أيدي هذه الفئة.

ففي كتابه "أين أخطأ اليمين؟" يتهم (بات بيوكانن) مجموعة المحافظين الجدد بأنهم اختطفوا السياسة الخارجية في عهد بوش وغيروا أفكاره، من انتقاده لفكرة أن تلعب الولايات المتحدة دور الشرطي في العالم، إلى إتباع سياسة شن الحروب الإستباقية الإجهاضية لدعم إسرائيل، ومن أجل نشر (الأمركة) في العالمين العربي والإسلامي وإعادة تشكيلهما.

 
وعلى رأس إدارة جورج بوش، وجد صقر صقور المحافظين الجدد (ديك تشيني) في منصب نائب الرئيس، وأيضاً الصقر (دونالد رامسفيلد) ــ وزير الدفاع السابق ــ والمعروف أن تشيني ورامسفيلد أكثر تأثيراً بدرجة كبيرة من أهم رموز المحافظين الجدد، فكتاب مثل "حالة إنكار" لبوب إدوارد، يركز بالأساس على رامسفيلد ومن خلفه تشيني كأكبر المسؤولين عن مأزق أميركا في العراق، ويكاد لا يتناول المحافظين الجدد إلا عابراً.

وهناك أيضاً (بول وولفويتز) الديمقراطي السابق ونائب وزير الدفاع وأكثر المتحمسين لاحتلال العراق، و(ريتشارد بيرل) الملقب بـ "أمير الظلام" منظر احتلال العراق وصاحب نظرية استخدام القوة الأميركية لتدمير أعداء إسرائيل، و(دوجلاس فيث) وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية الذي أقام مكتب الخطط الخاصة الذي أنشأه بالتلاعب بالمعلومات المخابراتية حول أسلحة الدمار الشامل.

ويشكل (بول وولفويتز) و(ريتشارد بيرل) و(دوغلاس فيث) الثالوث الجهنمي الذي سوغ للإدارة فكرة خداع الشعب الأميركي بخطورة التسلح العراقي على الولايات المتحدة وشعبها، وجرها إلى حرب مكلفة بشرياً ومادياً وسياسياً وإنسانياً. وهو الثالوث الذي ما زال يسعى من وراء ستار إلى جرجرة أميركا نحو المواجهة مع إيران.

أما (جون بولتون) وما أدراكم ما بولتون مندوب أميركا السابق بالأمم المتحدة، في الوقت الذي كان ينفي فيه وجود تلك المنظمة إلا إذا كانت أداة للسياسة الأميركية، ولا يري مانعا من "تدمير عشرة طوابق من طوابق مبناها" في نيويورك. ويقول جيمي كارتر في كتابه "القيم الأميركية المعرضة للخطر" : إن اختيار بوش لجون بولتون كسفير للولايات في الأمم المتحدة يعكس تبني حكومته لفلسفة المحافظين الجدد والتي تعتمد على تبني التدخل الاقتحامي المنفرد في الشؤون الخارجية لإعلاء شأن الولايات المتحدة ومصالحها السياسية والعسكرية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. ومن الجدير هنا بالذكر، أن جون بولتون ينتمي إلى صقور المحافظين وكان عضواً في إدارة المجلس الاستشاري لـ "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" وبعض أفراد أسرته ومنهم شقيقته يقيمون في إسرائيل، وقد عرف عن جون بولتون احتقاره للشرعية والقوانين الدولية. نشرت له صحيفة "وول ستريت جورنال" مقالاً عام 1997، جاء فيه "إن المعاهدات الدولية التي توقعها الولايات المتحدة لا تعتبر قوانين ملزمة، واجبة الاحترام، ولكن كضرورة سياسية لا ضرر من التحلل منها مع تغير الظروف".

إسرائيل في وعي الجدد:

تعد السمة المميزة التي ظلت تجمع المحافظين الجدد هي حبهم ودعمهم وولاؤهم لإسرائيل‏,‏ واتهامهم من يخالف مواقفهم في تأييد الكيان الاسرائيلي بالعداء للسامية‏,‏ الذي يعني ــ في رأسهم ــ كراهية اليهود بسبب دينهم أو ثقافتهم أو أصلهم‏. فالمحافظون الجدد الذين نابذوا العالم كله تقريباً العداء استثنوا منه الكيان الإسرائيلي الصهيوني الذي تمحور حوله تفكيرهم، معتبرين أن المصالح الأميركية والإسرائيلية يجب أن تكون متماثلة.

أجهد المحافظون الجدد عقولهم في تلفيق الدلائل لإثبات أن ما هو في مصلحة إسرائيل هو في مصلحة أميركا‏,‏ وذلك لإخفاء مشاعرهم الحقيقية التي تقدم الولاء لإسرائيل على الولاء للولايات المتحدة. ويخلص بات بيوكانن (وهو من المحافظين التقليديين) في كتابه "أين أخطأ اليمين؟" إلى أن أيديولوجية المحافظين الجدد تنطلق من مبدأ أساسي وهو تطابق مصالح أميركا مع إسرائيل، وبالتالي فهم يدفعون الولايات المتحدة إلى محاربة أعداء الكيان الاسرائيلي.. وقد دفعوا أميركا إلى شن الحرب على العراق وكانت ــ حسب رأي بيوكانن ــ "أكبر خطأ استراتيجي أميركي خلال أربعين عاما".

كتب ستانلي هوفمان ــ البروفسور في جامعة هارفارد ــ يقول ‏:‏ توجد مجموعة غير مترابطة من أصدقاء إسرائيل تؤمن بتطابق المصالح بين الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة، وينظر هؤلاء إلى السياسة الخارجية الأميركية من عدسة اهتمامهم الكبير‏:‏ هل هي صالحة بالنسبة لإسرائيل أم سيئة؟. ويمضي هوفمان قائلاً ‏:‏ منذ إقامة إسرائيل عام ‏1948,‏ لم يكن هؤلاء المفكرون على علاقة طيبة بوزارة الخارجية (الأميركية) على الإطلاق،‏ ولكنهم الآن مستحكمون في البنتاغون.

وفي مقال نشره (دانيال بايبس) ــ مدير "ميدل إيست فورم" ــ بمجلة "كومنتري" المحافظة التي تصدرها اللجنة اليهودية الأميركية، تحت عنوان "هل تحتاج إسرائيل إلى خطة؟" يرى الكاتب المحافظ أن الحل الوحيد للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يتمثل في أن يتخلى العرب عن حلم محو الدولة اليهودية، ولذلك يؤكد بايبس ــ بلا تردد ــ أن الصراع لن ينتهي لا بالمفاوضات ولا بالسور الواقي‏، وإنما بقبول أحد الطرفين بالهزيمة‏. أما الوصفة التي يضعها لبلوغ هذه الحالة فهي أن ما يساعدنا على تغيير موقف الفلسطينيين هو الردع الإسرائيلي‏، بالإبقاء على حضور عسكري قوي وتهديد جدي باستخدام القوة، إذا تعرضنا للاعتداء‏. وتأتي خطورة هذا المقال من عرضه للأفكار الصهيونية دون أن تشوبها المراوغة الدبلوماسية‏، أو يموهها طلاء العلاقات العامة‏.

وقد وطد صقور السياسة الخارجية الموالين لإسرائيل ــ من المحافظين الجدد ــ مراكزهم بقوة داخل إدارة جورج بوش الابن، فتمكنوا بمساعدة مؤسسات الأبحاث اليمينية من رسم سياسة أميركا الخارجية ــ وخصوصاً في الشرق الأوسط ــ بما تقتضيه المصالح الصهيونية. ولقد تعلَّم جنرالات إسرائيل والولايات المتحدة كيف يتعرفون على بعضهم البعض، وذلك بفضل جهود المحافظين الجدد واللقاءات المُتبادلة التي ينظمها "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" (JINSA) وهو مؤسسة تفرض على كبار العاملين فيها متابعة كافة الحلقات الدراسية والندوات المتعلقة بأفكار وأطروحات فيلسوف المحافظين ليو شتراوس.

العالم الإسلامي في أجندة الجدد:التركيز على العالم الإسلامي له جذوره العقائدية التي يبني عليها المحافظون الجدد منطلقاتهم الجديدة التي تتناسب وعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وذلك ضمن أهداف إستراتيجية وأسباب عقائدية وسياسية، من بينها الحفاظ على بقاء إسرائيل، ووجودها كقوة مهيمنة ضمن المجال الحيوي للمنطقة العربية الإسلامية برمتها.

فبعد الهجوم الذي استهدف برجي التجارة في نيويورك أعلن جورج بوش مباشرة أنها "حرب صليبية"، ولم تكن زلة لسان ــ مثلما قالوا ــ بل هي إستراتيجية مؤصلة سلفاً، بدأت بالحرب النفسية ضد العرب والمسلمين، من خلال الحملات ضد الإسلام والعروبة، ثم الحرب الإعلامية والثقافية ضد ثقافتهم ومناهجهم التربوية، ثم الحرب العسكرية باحتلال قسماً من بلدانهم، ثم بوادر الحرب الدينية والحضارية التي يُروجون لها الآن.

ويعتقد المحافظون الجدد أن العالم الإسلامي عموماً والشرق الأوسط خصوصاً، هما نقطة انطلاق أميركا في سياستها لإعادة بناء النظام العالمي الجديد. إذ يربط الجدد بين النازية، والشيوعية، والحركات الإسلامية، وهو ما تجلى في خطب جورج بوش، حين يربط بشكل تعسفي ومجرد بين هتلر ولينين وحماس وحزب الله وما يصفه بـ (الإسلام الفاشي) في حزمة واحدة.

يرى (ايليوت كوهين) أحد أكثر أكاديميي المحافظين الجدد تأثيراً والذي بدأ نجمه يسطع داخل الإدارة الأميركية بعدما عينته وزيرة الخارجية كوندا ليزا رايس مستشاراً لها. يرى كوهين أن العالم يعيش الآن حرباً عالمية رابعة ضد العالم الإسلامي.

فهم يتهمون ديناً كاملاً بأنه يحرض على العنف ويخلق جواً ثقافياً يقود إلى الإرهاب، ومن ثم يؤمنون بأن الخطر الأساس الذي يهدد أميركا هو خطر الإرهاب الذي تقوم به جماعات مسلمة بالأساس. يقول ريتشارد بيرل :"إن السياسة الوحيدة الممكنة للغرب وللولايات المتحدة، في كل حال، هي سياسة المواجهة طويلة الأمد ومتعددة الأشكال مع العالمين العربي والإسلامي".

وفي رده على سؤال لمراسل صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية، حول السبب الذي من أجله شنوا الحرب على العراق، يقول وليام كريستول ــ أحد المراجع المؤثرة في عقل جورج بوش وكان من صناع فكرة غزو العراق ــ يقول: إن هذه الحرب تهدف أول ما تهدف إلى تشكيل وبناء شرق أوسط جديد، فهي حرب لتغيير الثقافة السياسية في المنطقة بأكملها.

ويضيف كريستول: بعد ما حدث في ‏11‏ سبتمبر‏2001 ‏استيقظ الأميركيون ليكتشفوا أن هذا العالم أصبح مكاناً خطيراً، ولهذا بحثوا عن مبدأ أو عقيدة تتيح لهم مواجهة هذا العالم الخطير، والعقيدة الوحيدة التي وجدوها هي تلك التي يتبناها المحافظون الجدد، وتقوم على تغيير الثقافة السياسية للمنطقة، وإيجاد نظام عالمي جديد، والاستعداد لاستخدام القوة لبناء وتأسيس هذا النظام الجديد‏. وعلى هذا الأساس كانت حرب العراق لبناء النظام العالمي والشرق الأوسط الجديد‏.

ويسأله محرر "هاآرتس" قائلاً : هل يعني هذا أن الحرب ضد العراق كانت حرب المحافظين الجدد؟ فيضحك كريستول ويقول :‏ هكذا يقولون لكن الحقيقة أن هذه حرب أميركية، والمحافظون الجدد نجحوا في التغلغل داخل نسيج المجتمع الأميركي، وبسبب مثالية الأميركيين فقد قبلوا ما عرضه المحافظون في تبريرهم للحرب‏,‏ فالأميركيون لم يرغبوا في شن حرب من أجل المصالح لكن حينما تعلق الأمر بالقيم والمثل وافقوا على تلك الحرب، أي أنها تستند إلى رؤية عقائدية.

ويسأله المحرر: هذه الرؤية العقائدية تعني أنه بعد العراق يأتي دور السعودية ومصر؟ فيقول كريستول إنه بالنسبة للسعودية فمازال هو والإدارة الأميركية مختلفين بشأنها، لكنه يرى أنه لا يمكن السماح للسعودية بالاستمرار في نهجها الذي يحض على كراهية ومعاداة الأميركيين‏.

أما فيما يتعلق بمصر فيعتقد كريستول أنه لا يمكن الموافقة على الاستمرار في الوضع الراهن إذ يجب أن تتبع ديمقراطية ليبرالية، ويضيف أن الاستقرار الذي يعرضه القادة العرب هو استقرار وهمي وخيالي.‏

وكان عدد من كبار المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل نظموا ــ أوائل مارس من العام الحالي 2007 ــ ما سمي بمؤتمر "القمة الإسلامية الإصلاحية" في الولايات المتحدة، بهدف "علمنة الإسلام" و"إعادة تفسير القرآن" بتفريغه من مضمونه. عقد المؤتمر بمشاركة وجوه علمانية بارزة، ومسؤولي إعلام ومخابرات غربيين. وفي بيان صحافيٍ قال المنظمون: إن المؤتمر سيناقش التفسيرات العلمانية للإسلام، وأهمية توسيع مساحة النقد والحاجة لنقد القرآن. ويقول البيان: إنه يهدف إلى صياغة "إسلام عصري" من خلال إعادة تفسير الإسلام بأسلوب "عصري".


ومن أبرز المنظمين (مايكل ليدين) الذي ينتمي إلى معهد "أميركان إنتربرايز" الذي يساهم في تشكيل السياسة الخارجية للإدارة الأميركية. ومن المنظمين أيضًا "المؤسسة الأوروبية للديمقراطية" التي تعتبر الذراع الأوروبية لمؤسسة "الدفاع عن الديمقراطيات" الأميركية الموالية لإسرائيل والتي تأسست بعد يومين فقط من هجمات 11 سبتمبر ويسيطر عليها اليمينيون الجمهوريون من المحافظين الجدد. كذلك شارك في التنظيم (وليام كريستول) رئيس تحرير مجلة "ويكلي ستاندرد" الأسبوعية لسان حال اليمين الصهيوني الأميركي، وفرانك جافني رئيس مركز الدراسات الأمنية، وهما من الرموز البارزة للمحافظين الجدد ويتمتعان بارتباطات عديدة بمؤسسات المحافظين.

وعلى الرغم من أن موضوع النقاش في المؤتمر هو "إصلاح الإسلام" فإن أغلب المتحدثين -وفقًا لقائمة المتحدثين التي وزعها المنظمون- من غير المسلمين، بل من العلمانيين أو ممن تحولوا عن الإسلام، ثم تخصصوا في مهاجمته.

هجمات الـ 11 من سبتمبر:

يرى العديد من الباحثين والخبراء أن جزءاً كبيراً من (النجاح) المرحلي الذي سجله المحافظون الجدد، في السنوات القليلة الماضية، يعود إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتغيراتها على السياسة الأميركية والعالم. فالمثقفون الذين اعتادوا قيادة معارك الأفكار وجدوا فرصة مناسبة لوضع نظرياتهم موضع التطبيق. إذ كانوا المجموعة الوحيدة التي أوجدت تفسيراً كما اقترحت رداً في التو واللحظة، فقط بعد أيام قلائل من الهجمات.

وإذا كان صحيحاً أنهم لم يتوقعوا حدوثها، أو لم يسبق شيء إلى علمهم بشأنها، فإنهم على الأقل كانوا قد سبقوها بتوجيه الإنذارات: "علينا ألاّ نترك أنفسنا ننام عند نهاية الحرب الباردة.. لنبقى يقظين.. إنه من المبكر، أن يتم التحدث عن مغانم السلام، لأن هناك مخاطر جديدة تهددنا".

ولعله مما يستلفت النظر في هذا الصدد ما يذكره المراقبون من أن الرئيس الأميركي ــ وبعد الهجمات ــ انقلب من رئيس عادي كانت السلطة هي التي تستهويه، إلى زعيم وقائد ومنظر مقتنع بأنه يحمل رسالة القضاء على ما وصفه بالشر، ويذكر المراقبون بتصريح سبق أن نسب إلى جورج دبليو بوش ذاته، حين سئل مرة إذا كان يتحدث إلى "أبيه" ــ الرئيس الأسبق ــ فأجاب بأنه يتحدث إلى الأب الذي في السماوات.. ولقد تمكن المحافظون بعد الهجمات من السيطرة سيطرة كاملة على السياسة الأميركية.

العراق.. محطة على طريق التدمير:

من المعروف أن صياغة جزء كبير من كابوس (الشرق الأوسط) الحالي، تمت على عين المحافظين الجدد وحسب رغبتهم وتوجهاتهم. إذ تعد المنطقة العربية و(الشرق الأوسط) عامة، مركز دائرة التفكير الجيوسياسي لدى المحافظين الجدد، الذي يعتقدون أنه يجب أن يتبدل طوعاً أو كرهاً، وأن يأخذ التبدل المنشود (إسرائيل) في حسبانه.

ويقدم كتاب America Alone لمؤلفيه Stefan Hapler و Jonathan Clarke ــ الخبيران في السياسة الخارجية ــ التفسير وكيف أن مجموعة الجدد اختطفوا السياسة في كل من أميركا وبريطانيا تحت مزاعم مكافحة الإرهاب ظاهرياً، في حين كان الهدف هو إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط حتى تظل دائرة في فلك السياسة الأميركية ومستجيبة لإيحاءاتها وتوجهاتها، ومتقبلة لفكرة التدخل الأميركي في شؤون دولها الداخلية ومتقبلة لفكرة حروب أميركا الوقائية.

ونشير في هذا الصدد إلى تقرير "إستراتيجية الدفاع لعقد التسعينات" الذي أعده ديك تشيني وزملاؤه عام 1992 ــ أي قبل ثماني سنوات من وصوله إلى منصبه الحالي كنائب للرئيس ــ واختار هو و زملاؤه من المحافظين الجدد العراق كهدف لتطبيق تلك الفلسفة خدمة لأمن إسرائيل، ولتحويل العراق قاعدة عسكرية دائمة للولايات المتحدة في المنطقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق